حديث عن اللغة

 

ترتبط اللغة ارتباطًا قويًّا بهويّة الإنسان؛  فهي مكوّن أساسيّ من مكوّنات تميّزه عن الآخرين، وتماثله مع من يشاركونه فيها، وهي الوعاء الحافظ لتاريخه وتراثه، وهي الرابط المتين الذي يربط الفرد بأمّته وأهله وأرضه؛ فلا شيء كاللغة يعبّر عن هويّة الناس، ولعلها تكون الملحظ الأول الذي يصنّف الناس عند من يختلط بهم ويتحدث إليهم.

ومن وجهة نظر لسانية معاصرة فإن الهويّة الدينيّة والوطنيّة والعرقيّة تتشكّل باللغة وتتشكّل اللغة بها.  فأيّ دراسة للغة تحتاج أن تُدخِلَ الهويّة في عناصرها الأساسيّة إذا كانت تهدف إلى أن تكون دراسة كاملة وغنيّة وذات مغزى؛ لأنّ الهويّة تقع في صميم ما تعنيه اللغة، وفي آليّة عملها، وكيفيّة تعلّمها، وكيفيّة استعمالها، كلّ يوم، من كلّ شخص، في كلّ وقت.

وعلى الرغم من هذا الاندماج بين الهوية واللغة، فإنّ هناك عوامل كثيرة من خارج اللغة قد تؤثر في هذه العلاقة، فتُضعف حضور اللغة في حياة النَاس، وتجعل أثرها باهتًا لا يكاد يُرى؛ فإذا نظرنا، على سبيل المثال، إلى قضية اختيار لغة التعليم التي تقع مسألة الهويّة منها موقع القلب، فإننا سنلاحظ أنّ هذه قضيّة تتدّخل فيها عوامل أخرى من خارج اللغة، وهي ذات تأثير قويّ وسلطة طاغية، بحيث يصير الأمر كأنه خاضع لها وحدها في النهاية، ولا يكون للغة وما تتمتّع به من مكانة وخصوصيّة أيّ تأثير يذكر في مقابلها. ولعلّ في هذا إشارة واضحة إلى أنّ اللغة لا تنفصل عن مقوّمات بقائها؛ فهي مندمجة اندماجًا قويًّا في بنية المجتمع الذي هي لسانه، ومتفاعلة بقوّة مع الأوضاع الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي يحياها. فليس هناك شك، كما يصرّح جون إدواردز في كتابه "اللغة والمجتمع والهوية" في أنّ أقوى العوامل التي تقف وراء ضعف اللغة هو عدم كفاءة أهلها وضعفهم أمام الآخر الذي يتمتع بقوّة اقتصادية وتقنيّة عالية.

إنّ هذا الارتباط – رغم وضوحه- يتجاهله أحيانًا من ينادون بالحفاظ على اللغة الأم، وضرورة التمسّك بها؛ فاللغة ليست منفصلة عن الواقع، ولا يمكن الفصل بينها وبين عوامل أخرى تؤثر تأثيرًا عميقًا في تعزيز مكانتها ووجودها أو في إضعافها وتنحيتها. إنها تتصل اتّصالًا مباشرًا بالتكيف العمليّ (البراغماتي) للمتطلبات التي يفرضها الواقع الاقتصادي المتغيّر باستمرار. وقد بيّنت المؤسسة الملكية للعلاقات الدولية في لندن هذه المسألة؛ فذكرت أنّ الناس قد يغيّرون لغتهم، ويتعلمون لغة أخرى إذا دعت الضرورة لذلك، "وعلى الرغم من أنّ اللغة الجديدة ستُتعلم على أنها لغة ثانية أو مساعدة فإنّ الأجيال اللاحقة ستميل إلى استعمالها استعمالًا متناميًا في كلّ المجالات".

لقد أشار كثير من الدارسين إلى العلاقة الوثيقة بين اللغة والاقتصاد، أو القوة بمفهومها الأكثر شمولًا، ومدى تأثير الثانية في الأولى تأثيرًا قد يصل أحيانًا إلى درجات قصوى من الإقصاء والتهميش؛ فقد ذكر دورين، مثلًا، "أنّ الولاء للغة يبقى ما دامت الظروف الاقتصادية والاجتماعية تمثّل عوامل مساعدة لها، ولكن إذا أثبتت لغة أخرى أنّ لها قيمة أكبر فإنّ تحولاً إلى اللغة الثانية سيبدأ". ويؤكد جون إدواردز هذا بقوله إنه لا يوجد استثناء على هذه القاعدة، إلا في حالات ترتبط بها اللغة بدعامة أساسية في حياة الناس، كالدين مثلًا، ويوضح أنّ مثل هذه الحالات نادرة جدًّا.

ولعلّ التعليم هو من أكثر المجالات التي يظهر فيها تأثر اللغة بما يكتنف حياة المجتمعات من تقلبات اقتصادية واجتماعية جديدة؛ ففي ظلّ النظم الاقتصادية الجديدة، والانفجار المعرفي المتسارع أضحت اللغات مظهرًا سريع التأثر في كثير من المجتمعات، غير قادر على الصمود في وجه العملقة اللغوية للغات القوية، وبخاصة اللغة الإنجليزية، وقد نتج عن هذا التراجع للغة الأم في المجتمعات النامية انسحاب حضاريّ لعناصر جوهريّة تشكل هويّة المتعلمين وخصوصيتهم التاريخية والقومية، وأصبح المتعلمون أنفسهم لا يشعرون بأهمية هذه العناصر في حياتهم.

ومما يزيد هذا الأمر أهميّة ما يؤكده علماء اللسانيات الاجتماعية، والإنثروبولوجيا من أنّ لتعلم اللغة الثانية أثرًا عميقًا في إعادة تشكيل الكثير من القيم والأفكار في أذهان المتعلمين، وهم يرون أن تعليم اللغة هو تكييف اجتماعيّ أكثر من كونه اكتسابًا.  فأنت لا تتعلم اللغة وحدها، أنت تتشرب ثقافتها ونظرتها الخاصة للحياة، وتصير روحها جزءًا من روحك. وليس في هذا ضير إذا كنت متمكّنًا في الأساس من لغتك الأولى، متمسّكًا بها، وإذا كانت لغتك الأولى تحظى بدعم كبير وحضور قويّ في المجالات الحيوية في حياتك وحياة الآخرين في مجتمعك.

ويؤكد أهمية حضور اللغة الأم في حياة المتعلمين ومنحها الوقت الأكبر في التدريس مقارنة باللغة الثانية ما أشار إليه كثير من الباحثين في دراساتهم حول التعليم ثنائي اللغة؛ إذ يوضحون أنّ التعليم ثنائي اللغة لا يستمر ثنائيًّا مدةً طويلة؛ فثنائية التعليم ظاهرة مؤقتة في الغالب، لأنها تؤدي في النهاية إلى أحادية اللغة، ولا يمكن أن تكون ظاهرة ثابتة إلا في وجود مجالات مهمة لاستعمال اللغتين معًا؛ فالناس لا يُبقون على لغتين إلى الأبد حين تكون إحداهما كافية في جميع السياقات.

إنّ وعي الناس بطبيعة العلاقة بين اللغة الأولى والثانية في مجتمع تتسيّد فيه اللغة الثانية، وفي واقع تبسط فيه سيطرتها على مفاصل الحياة، ومصادر العلم والمعرفة، ووسائل التعليم الحديثة، هذا الوعي هو الذي نحتاجه، حتى لا نتطرّف في أفعالنا أو ردود أفعالنا، فلا نسلّم أبناءنا، مختارين، للغة الأجنبية تحت ضغط مبدأ القوّة، وحاجة السوق، وتحت وطأة الخوف من التخلّف عن الآخر، ولا نحرمهم من أن ينفتحوا على العالم وأن  يتسلحوا بمعرفة متينة للغة لا يمكن أن تُتجاهل أو يّغضَ الطرف عنها. 

الوعي بأنّ اللغة الأم تحتاج أن نبذل من أجلها الجهود وأن نخلق توازنات معقولة ومقبولة تحفظها، وتمنحها الوقت الذي تستحقه. تحتاج لغتنا أن نعتني بها كما نعتني بأمهاتنا، تحتاج أن يسمعها الصغار، وأن يتغنوا بها، ليس في المدرسة فحسب، وليس في حصة اللغة العربية فقط، وإنما في البيت، وفي المدرسة، وفي أماكن أخرى، في الصباح والمساء، يحتاج أبناؤنا أن نحدّثهم بالعربية بين وقت وآخر، وأن نقرأ لهم بصوت دافئ محبّ، وأن نسألهم عن الكلمات والدلالات، ونتوقّف معهم أمام الجمل والاستعارات. علينا أن ننقل إليهم حبّنا للعربية، واعتزازنا بها، وحرصنا عليها. فإذا حدث شيء من هذا فستحدث بعده أشياء وأشياء. فاللغة تبدأ من البيت قبل أي مكان آخر.

 

اترك تعليقًا

Please note, comments must be approved before they are published

الرجوع إلى الأعلى