سأبدأ الآن.. هل تسمعينني؟

سماء تمطر حبًّا، وأرض تنبت خيرًا

 

 

هذه رواية شافية، تأتيك كصديق غاب طويلًا ثم عاد إليك محمّلا بالشوق والود. رواية كتبت باحترافية عالية، واحترم كاتبُها عالمَها وشخوصَها، وترك القياد لهم تمامًا، جاء فيها صوت الراوي ناصعًا دافئًا واضحًا، يأخذك إلى فضاء عالمه ويدخلك في قلبه وعقله بخفّة ومهارة، قلّ أن صادفتها فيما يُكتب لليافعين.

رواية لا تتحذلق ولا تستعرض ولا توجّه ولا تعطي دروسًا، بل تنسج فكرتها على مهل، بحيث تتكشف لك الشخصيات رويدًا رويدًا، كأزهار تودع ظلمة الليل وبرودة الندى لتستقبل دفء الصباح، فيفوح عبقها عطرًا يكاد القارئ يشمه.

تبدأ الحكاية مع فاطمة الفتاة القروية الصغيرة التي تحلم بأن تذهب إلى المدرسة وتتعلم القراءة والكتابة، وفي طريقها لتحقيق حلمها نلتقي أباها "عدنان ملك الزمان، عازف الربابة" وكلبها سلطان "صاحب الشعر الأسود والعينين العسليتين الواسعتين" الذي يمشي دائمًا ببطء، "من عرج في رجله اليمنى". ونلتقي أخاها سالمًا الذي يساعد أباه في الحقل نهارًا، ويخرج مع أصحابه مساء. ونلتقي صديقتيها آمنة وسارة اللتين تجلسان معها تحت شجرة الخروب الساحرة والمسحورة، التي "تحول البنت إلى دجاجة، والدجاجة إلى دعّاسة" كما تقول أم آمنة. ونلتقي كذلك بالعنزة نزيهة التي تأكل العشب ببطء، وتحجر الفتيات الثلاث بنظرات غاضبة وهن يتقافزن حولها. ونلتقي أخيرًا بأم فاطمة التي ماتت. عالم صغير، وشخصيات بسيطة، لكنها تفيض بالحبّ، والجمال.

تنجح فاطمة الصغيرة في إقناع والدها ليسمح لها بالذهاب إلى المدرسة، فتكون، بذلك أول فتاة، تذهب إلى المدرسة في قريتها والقرى الأخرى المجاورة. لقد سحرتها الكلمات التي كان الأولاد يرددونها من وراء معلمهم وحفظت منها جملة "بحر فيه مسك وجبل ترعى الغزالات في راحتيه"، لم تكن تفهم ما تعنيه هذه الكلمات، لكن السحر كان قد وقع. تقول فاطمة "لا أستطيع أن أنسى مشهد المعلم والأولاد حوله في الجامع، والكلمات، تلك الكلمات الساحرة التي كان يقولها! يجب أن أذهب من أجل الكتاب الذي لم تقرأه أمي". إنّها ليست الكلمات فقط، إنّها أمّ فاطمة التي لم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تعرف نهاية الحكاية التي كان أبوها (جدّ فاطمة) يقرأ لها منها كل ليلة. "تعلمي القراءة والكتابة، اقرئي واكتبي... هذا الكتاب لك إن استطعت القراءة، وإن لم تتعلمي القراءة مثلي فاحرقيه! احرقيه، لأن الكلمات بداخله ميتة وحزينة، ومن الأفضل لها أن ترتاح!". كانت هذه وصيّة أم فاطمة لها، وفاطمة ابنة بارّة، حفظت وصيّة أمّها، وصارت تتعلم القراءة والكتابة، ومع كل حرف تتعلمه، كنا نحن نقرؤها هي، ونقرأ عالمها النقيّ البريء، الطافح بالخير والحب.

في الطريق الطويل إلى المدرسة، وفي ظلمة أول الفجر، تسير فاطمة مع كلبها سلطان، وتتساءل "من الذي يسحب الصباح؟" كأنّها ترى أنّ هؤلاء المبكرين، أصدقاء السحر والفجر الذي يغذّون الخطا إلى أرزاقهم وأحلامهم، هؤلاء هم الذين يسحبون الصباح، فيولد النور خلف خطواتهم، وتشرق الشمس بدفء أنفاسهم. فاطمة صديقة الثعلب الصغير، الذي لا يقترب منها، لكنها تراقبه بحب، وتجعله اسمًا لقلبها، فاطمة الصغيرة، تسحب الصباح وهي تسير نحو الكلمات.

وتتساءل فاطمة الصغيرة أيضًا "من الذي يصنع الطريق؟" وتجيب "آلاف الخطوات: خطوات بشر وكلاب وحمير وبغال، خطوات صغيرة وخطوات كبيرة، خطوات قوية وخطوات ضعيفة، خطوات مسرعة وخطوات بطيئة، خطوات شجاعة، وخطوات خائفة، تمامًا مثل خطواتي في هذا اليوم، وأنا ذاهبة إلى مكان لا أعرفه، لأقابل بشرًا لا أعرفهم. خطوات أبي وخطوات أمي، أبي في زياراته لأصدقائه في القرى، أو لمشوار من مشاويره التي يحمل فيها سكة الحراثة على حمارنا برقوق ليصلحها عند الحداد بعد أن تعلق في صخرة داخل الأرض فتكسرها. وأمي التي تجلب الماء من النبع في جرة تحملها على كتفها أو على ظهر الحمار، فلا ماء في قريتنا، قريتنا بلا ينابيع. خطوات غزالات يعبرن في الليل وذئاب تلحق بها، أرانب تقفز من بين أجمات السرو والبلوط والبطم، تقفز على الدرب ثم ترجع وتختبئ في بيوتها، وخطوات ثعلب صغير، أرى مثله في الليل على ضوء القمر، وهو يتمشى خلف بيتنا، كأنه ظل زهرة قندول".

الطريق الذي تصنعه الخطوات هو نفسه طريق الحياة الطويل الذي تصنعه الأحلام والأمنيات والسعي نحو الوصول. وفاطمة كان سعيها مشكورًا، لقد استطاعت أن تصل، على مهل، وعلى حبّ، وعلى وفاء. فاطمة صنعت طريقها من أجلها، ومن أجل الكلمات التي سحرتها، ومن أجل أمّها التي رحلت وتشتاق إليها. تجلس مع سلطان على حافة البيت وتبكي، وتسرح في النجوم، وفي المقبرة التي لم تمش إليها ولا مرة، منذ ماتت أمّها. يوجعها الشوق إليها، وتؤنسها الذكريات، وبين الوجع والأنس تصنع فاطمة طريقها، الذي أحبّته في كل أحواله، متدفئة بحب أبيها وأخيها، ومستأنسة بصدى ضحكات صديقتيها.

وحين صارت الكلمات في متناول اليد ركضت فاطمة على الطريق، وهي تحمل كتاب أمّها، وتلحق الشمس قبيل الغروب، ركضت وركضت، وهي تسأل "هل تأخرت عليك؟ لم أستطع أن أزورك، هل تأخرت عليك؟" ركضت وركضت حاملة كتابها وقلبها وشوقها، وحين اقتربت من قبر أمّها، مشت وبكت. وجلست على التراب، وهمست: "أنا هنا، هل تأخرت عليك؟"...

لم تعد الكلمات ميتة ولا حزينة يا فاطمة. لأنّ هناك عينًا تقرؤها، وعقلًا يفهمها، وقلبًا يحملها إلى قبر أمٍّ راحلة ليكمل لها الحكاية. صنعت فاطمة الصغيرة طريقها، وعلى وقع خطواتها نسجت حكاية لا تُنسى، حكاية شافية، تأتيك كصديق غاب طويلًا ثم عاد إليك محمّلا بالشوق والود والوفاء.

كتب أنس أبو رحمة هذه الرواية ببراعة، ورسم فضاءها بذكاء، ففي الطريق التي كانت تسير فيها فاطمة قدمًا نحو المدرسة، كنّا نحن نسير في الاتجاه المعاكس في الزمن. طريق "صعبة وقاسية، مليئة بالوحدة والخوف، لكنها مليئة بالزهور والعصافير والروائح التي تأتي من عالم آخر"، هذا العالم الآخر يكشفه لنا الكاتب بتقنية الاسترجاع على مهل، فيضيء لنا عالم الرواية كما تضيء الشمس الكون حين تشرق، بصمت، وبلا ضجيج.

نبدأ مع فاطمة في يومها الأول في المدرسة، فنتحرك بين زمنين، ذهابًا وإيابًا، زمن الذكريات الجميلة مع الأم الراحلة، وزمن اللحظة الراهنة التي تزيد فاطمة فيها رصيدها من الحروف، والكلمات، وتصنع لها ذكريات جديدة مع من تحبّ، فتكبر، ويكبر حبنا لها، حتى نصل معها إلى لحظة يلتقي فيها الزمانان، زمن الأم التي غابت، وزمن الكلمات التي كتبت لها الحياة.  وفي هذه اللحظة لا نملك إلا أن نبكي، لأنّ فاطمة صارت قريبة جدًّا، وكل حرف تعلمته علمنا كيف أنّ فتاة قروية صغيرة صنعت طريقها، وحققت حلمها، ووفت بوعدها، وكانت تنثر الحبّ كل يوم وهي تسحب الصباح نحو المدرسة، وتسحبنا نحن نحو قلبها العامر بالطيبة والحبّ والقوّة والإصرار.  

5 comments

  • إيه الجمال والرقي في الكلمات والتعبير

    hanaa
  • رواية مشرقة.. ومقالة نقدية أكثر إشراقًا.. دمتِ نورًا للجمال.. للغة.. للأدب الحقيقي.. دكتورة لطيفة.

    فاطمة
  • أنا مفتونة بجمال هذه القراءة، اللغة النص، تكثيف الأحداث بمشهد بانورامي حتى بدا لي كأنها كاميرا ترصد الحكاية كلها من جميع أطرافها لكنها لم تكتف بالرصد من أعلى بل صادقت بمشاعرها رحلة فاطمة بطلة الحكاية واستشعرت كل تفصيلة حتى أحسسناها ونحن نقرأ. د.لطيفة تنتصر للجمال دوما بجمال يضاهيه.

    هدى حرقوص
  • هذه مقالة نقديّة رفيعة المستوى والمقام تليق بهذه الرّواية الجميلة المتألّقة.
    أرجو للكاتب والنّاقدة دوام التّألق والإبداع.

    إبراهيم السعافين
  • الله!!!
    كيف لم تكتبي رواية حتى الآن،ولغتك بهذا الصدق الوضاء؟

    كفاح

اترك تعليقًا

Please note, comments must be approved before they are published

الرجوع إلى الأعلى