فراغ عاطفي - قصة لمريم الساعدي من كتاب "أبدو ذكية"

قصة لمريم الساعدي من كتاب "أبدو ذكية"

 

"نحتاج لأكثر من نصف دقيقة من الصمت لنستوعب أن اللحظة التي مضت للتو، لن تعود أبدًا."

 
 
استيقظ على صوت المنبه. مال برأسه نحو الجهة الأخرى، التصق بالجدار.
اكتشف منذ مدة أن النوم ملتصقًا بالجدار يمنحه إحساسًا مميزًا بالإنجاز. جلس بالأمس وقت العصر يحاول تحليل سبب هذا الإحساس، كان يرتشف شاي العصيرة، ويستمع لصوت تغريد عصفور وحيد على شجرة يابسة في باحة منزله الأمامية. ومع قليل من التركيز وكثير من التأمل توصل لسبب إحساسه ذاك: الجدار بارد؛ حين يلصق وجهه به تبرد أنفاسه الساخنه، فيشعر براحة الاكتفاء. الجدار ثابت لا يتحرك؛ يعرف أنه إذا التصق به لن يجد نفسه فجأة وقد سقط في الفراغ. الجدار يحميه، يحمي روحه من الإحساس بالجوع لحضن دافئ يحبه دومًا بشكل مستمر وثابت.
باختصار الرجل يعاني من فراغ عاطفي، موحش.
 
في الليلة السابقة التقى بمنصور، صديقه أيام الثانوية. منذ افترقا بعد الثانوية منصور للجيش وهو للجامعة لم يلتقيا حقا، كانت لقاءات سريعة عابرة، هنأه على تخرجه من الكلية العسكرية، حضر حفل عرسه، ثم صار مشغولًا بحياته واختلفت الاهتمامات. الليلة السابقة التقاه صدفة في أحد مراكز التسوق، كان بصحبة ولده خالد... ولده خالد.. ولده.. في البداية ظنه أحد أصدقائه الشباب. فتى في الثامنة عشرة، يبدو في العشرينات "هذا خالد ولدي" قال له منصور بعد عبارات الدهشة ومحاسن الصدف وأين أنت يا رجل.
الرجل، ساعتها لم يعرف أين هو. في الحقيقة ظل ساعتها يتساءل أين هو فعلًا، أين كان، ماذا فعل. كيف.. كيف لم ينتبه أن كل هذه السنين مرت منذ افترقا بعد الثانوية. بالأمس، كان الحدث بالأمس، بدا كذلك.. بالأمس فقط كانوا يجلسون لامتحان الرياضيات حين رفعوا أيديهم عن الورق مطالبين بتأجيل الامتحان لأنهم انشغلوا في الليلة السابقة بمتابعة خبر احتلال العراق للكويت ولم تكن نفسياتهم في وضع يسمح بأداء امتحان. " ليه يا روح أمك منك ليه، هو انتوا كنتوا في الجبهة".. كان تعليق أستاذهم المصري الساخر.
بالأمس كانوا يشعرون أن غزو العراق للكويت مثل شرخ، سكين ليس لأرض الكويت، لكن لما يمثله الوطن الأكبر لهم. بالأمس كانوا قد قرروا بعد الصدمة أن كل العرب " شعارات" وكلام فارغ، وبأن التاريخ "أكذوبة كبرى" والوحدة العربية " أضغاث أحلام". بالأمس كانت تسكنهم هواجس وكانوا قد قرروا الانحباط والتقوقع على الشؤون الذاتية. كان هذا بالأمس تمامًا، لم يدرك، أنه قد مرت عشرون عامًا، عشرون عامًا، عام ينطح عام، على قرار التقوقع على الذات.
أي ذات؟
" هذا ولدي خالد"، قال منصور.
منصور تقوقع على ذاته وأنتج:
 وجه يرتدي ابتسامة في أي لحظة يصادف فيها صديقًا،
 رأس يتلفت بخفة نحو واجهة المحلات في أي لحظة يبصر شيئًا مثيرًا،
 لسان يتحدث برشاقة في أي موضوع،
 وشاب وسيم طويل مهيب يمشي معه مثل صديق هو ولده، واسمه خالد.
اسمه خالد!.. هو سماه خالد، هو امتلك حق تسمية كائن آخر، كائن آخر ينعته بالخلود!
أي تحدٍ، أية قوة، أية شجاعة، وثقة بالذات!
 
أي إنجاز يحققه التقوقع على الذات!
 
لكن، ماذا عنه؟!
 
عشرون عامًا مضت، لازال يحاول الحصول على شهادة الماجستير.
انشغل.. بماذا؟
بالتغيير من جامعة لأخرى، من تخصص لآخر. في كل مرة كان هناك خلل ما، في الجامعة، في الأساتذة، في التخصص، حتى إنه لم يتمكن من الاستقرار في أي عمل أكثر من بضعة أشهر.
ظل يبحث مطولًا عن ما يهمه حقًا. ليحقق ذاته.
انشغل بالذات.
بالذات؟؟
أم..
أم..
 
بالهراء؟!!
 
ارتعد قلبه داخل قفصه الصدري، صار يتقلب عن يمين القفص وعن يساره، وتاره يقفز لأعلى وتارة لأسفل، كمن يبحث، يحاول، أن يلتقط بشكل مجنون سنون العمر التي ولت.. في هراء!
 
عشرون عامًا.
 
لم يحصل على أي شيئ بعد.
 
"كم عشرين عامًا في العمر..بعد!"، تساءل في نفسه وطعم مر يحسه كلما بلع ريقه.
 
"متى تتزوج يا ولدي"
"لا أمتلك وقتًا لهذا الآن، لا تحدثوني في الأمر، يجب أن أنتهي من الرسالة"
"أية رسالة؟؟"
"الماجستير يا أمي، الماجستير"
"الزواج لن يمنعك"
"بلى سيمنعني، أحتاج التركيز، ثم لا مزاج لي الآن"
"العمر يمضي يا ولدي"
"لا يهم"
 
ماتت أمه.
ولم يكمل الرسالة بعد.
و "العمر يمضي"....
 "هذا ولدي خالد.." قال منصور.
مد خالد يده، يصافحه...
هو كائن فعلًا.. " لا تحدثه في السياسة، سيبلعك" يعلق منصور ضاحكًا.
ويتحدث في السياسة أيضًا! ويفهم! عقل كامل! يفكر، يحلل، يحلم، وسيقرر يومًا أن "ينحبط"! كل هذا.. لمنصور!
يبدو... يبدو... أن "العمر يمضي" فعلًا..!!
 
ويبدو... أن.. أن هذا أمر يهم!
 
يطفئ جرس المنبه، ينقلب إلى الناحية الأخرى من السرير، ويلتصق تمامًا بالجدار.

التعليقات (1)

  • قصة مميزة إستمري….

    سعود العيسائي

اترك تعليقًا

Please note, comments must be approved before they are published

الرجوع إلى الأعلى